قبل ثماني سنوات شهدت المنطقة العربية وخصوصا في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن ثورات الربيع العربي، والتي أطاحت برؤساء معظم هذه الدول، وجاءت حاملة مطالب اجتماعية واقتصادية في الأساس، صحيح أنها فشلت في تحقيق أهدافها، وخرجت عن مضمونها الأساسي، إلا أنها حركت المياه الراكدة، رغم عمليات الفوضى التي جرت في بعض الدول، وركبها المنتفعون وأصحاب المصالح.
إلا أنها خلقت حالة من الحراك، والتغييرات في دول أخرى لاستيعاب الدرس مبكرا، وقامت بالعديد من الإصلاحات الإقتصادية لإمتصاص الغضب المحتمل، وأجرت حوارات مجتمعية حول العديد من القضايا التي تواجه أفراد المجتمع، وقد تركزت هذه الخطوات في العديد من الدول العربية وفي الشرق الأوسط.
وكان مواطنو هذه الدول هم الأكثر استفادة من أحداث الربيع العربي من مواطني دول الثورات نفسها، والتي جاءت ثوراتهم بكوارث على بعضهم، إما من خلال حالات حروب وتدخلات من جهات خارجية لامتصاص ثرواتهم، أو إثارة نزاعات وخلافات والدخول في حروب تم إصطناعها بعناية شديدة لتستمر الفوضى ليحصد أصحاب هذه المصالح المزيد والمزيد من ثروات تلك الدول، بوجوه مختلفة.
هناك من نجا من هذه اللعبة القذرة، إلا أن مصالح الشعب ومطالبه بعدالة إجتماعية ما زال في مراحل الأحلام، والأمنيات، رغم محاولة إعادة التاريخ، إلا أن التجارب تقول أن الأصلح هو الذي سيستمر ويدوم، وقوة الشعب هي المُحرك في النهاية.
وفي ضوء تلك التجارب العربية، عادت نفس الأحدث تطل برأسها من جديد في دول أوروبا الغنية، ولذات الأسباب وبنفس الطريقة في بعض من هذه الدول، وهو ما شهدته فرنسا من ثورة أصحاب "السترات الصفراء"، والذين خرجو غاضبين من سياسات حكومتهم الإقتصادية، والتي جاءت ضد مصالح الفقراء.
خصوصا لو علمنا أن المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة الفرنسية يأتي من الضرائب، آ حيث يتم تحصيل ما يقارب 50% من مرتبات الموظفين في شكل ضرائب، وعندما مست الحكومة هذا الجرح خرج الناس في حالة غضب وهياج.
وشهدت عواصم أوروبية أخرى أحداثا مماثلة وإن كانت أقل حدة، مثلما حدث في بروكسل عاصمة بلجيكا، وإضراب سائقي القطارات في ألمانيا، وغيرها وكلها لذات الأسباب الإجتماعية والإقتصادية، ولاشك أن أحداث باريس كانت الأعنف والأشد.
وسعى آ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطاب مساء الإثنين، لمعالجة الموقف بمصالحة عن طريق زيادة الحد الأدنى للأجور في بلاده بقيمة 100 يورو شهريا، بداية من يناير المقبل، واتخاذ مجموعة من الإجراءات العاجلة لامتصاص غضب الفرنسيين، على خلفية احتجاجات "السترات الصفراء" التي تواصلت للأسبوع الرابع على التوالي، مع الإعلان رسميا عن إلغاء ضريبة الرعاية الاجتماعية لمن يحصلون على أقل من 2000 يورو شهريا.
واستخدم ماكرون نفس التبريرات والعبارات التي يستخدمها الحكام العرب في تبرير رفع الأسعار والضغوط على الفقراء، بقوله إن الاحتجاجات مردها يرجع إلى ضائقة مستمرة منذ 40 عاما!!، ولترضية الغاضبين، أضاف "فاتورة الزيادة لن تسددها الشركات، ونريد لفرنسا أن يمكن للفرد فيها أن يعيش بكرامة من عمله،وسأتدخل بشكل عاجل وملموس في هذا الموضوع. والأجور سترتفع بـ100 يورو بدءا من 2019.
وبطريقة العرب قال "سيتم إلغاء الضرائب المفروضة على ساعات العمل الإضافية وأطلب من جميع أرباب العمل "القطاع الخاص" آ تقديم علاوة غير خاضعة للضرائب، مؤكدًا أن الغضب عميق ومبرر، لكن الغضب لا يمكنه تبرير العنف والشغب.
ويبقى السؤال هل سيحل ماكرون أزمات بلاده، أم سيظل الفقراء هم من يتحملون العبء، .. يقيني أن الأغنياء سيظلون بعيدين عن كل الإجراءات، ويتحمل الفقراء والمطحونون الثمن، وعالمنا العربي خير شاهد.!
------------------
بقلم: محمود الحضري